مقومات التكليف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
مقدمة تذكيرية:
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع من دروس العقيدة والإعجاز، وقد أنهينا في الدرس الماضي مفهوم العبادة الواسع، وكيف أن العبادة طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية، وكيف أن العبادة تدور مع الإنسان في كل شؤون حياته، وفي كل أوقاته، وفي كل أماكنه، وفي كل حركاته وسكناته، وبينت أن هناك عبادة شعائرية كالصلاة والصوم والحج، وأن هناك عبادة تعاملية كالصدق والأمانة والعفة، ثم بينا عبادة الهوية، الغني له عبادة متميزة، والعالم له عبادة متميزة، والحاكم له عبادة متميزة، والمرأة لها عبادة متميزة، وأن هناك عبادة الظرف، عندك ضيف، عندك قريب، عندك مريض، عندك ابن على مشارف الامتحان، وهناك عبادة العصر، إن أراد الطرف الآخر إفقارنا فالعبادة استخراج الثروات، واستصلاح الأراضي، وتأمين المشاريع، كي نكفي الأمة عن أن تستجدي من جهات لا ترضي الله، وبينت أيضاً كيف أن العبادة عبادة العصر والظرف والهوية، وهذه عبادات هي منهج تفصيلي يبدأ من العلاقات الزوجية، وينتهي بالعلاقات الدولية.
مقومات وثوابت التكليف:
الآن ننتقل إلى موضوع جديد، ألا وهو أن الله عز وجل حينما كلفنا أن نعبده أعطانا مقومات التكليف، ما مقومات التكليف ؟ بماذا أعبده ؟ قلت في لقاء سابق: نحن بالكون نعرفه، وبالشرع نعبده، المقوم الأول من مقومات التكليف، وسوف نمضي بها إن شاء الله دروساً كثيرة، لكن في هذا الدرس سوف أجمع كل المقومات كموجز، والتفصيلات تأتي في دروس قادمة.
المقوم الأوّل: الكون:
الشيء الذي لا يختلف عليه اثنان في الأرض هو هذا الكون، الشمس شمس، القمر قمر، الليل ليل، النهار نهار، الجبال، البحار، البحيرات، الأنهار، الأسماك، الأطيار، النباتات، الجمادات، المعادن، أشباه المعادن، المخلوقات، هذا الكون هو الثابت الأول ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، هذا الكون قرآن صامت، هذا الكون يمكن أن يقرأ فيه أي إنسان، عربيًا كان أو غير عربي، هذا الكون لا يختلف عليه اثنان، هذا الكون ينتفع به كل إنسان، لذلك يعد الكون أكبر ثابت من ثوابت الإيمان، الكون يدل على الله، ففي الكون حكمة تدل على الحكيم، وفي الكون رحمة تدل على الرحيم، وفي الكون تسيير يدل على المسير، وفي الكون مخلوقات تدل على الخالق، وفي الكون لطف يدل على اللطيف، وفي الكون جمال يدل على الجميل، كأن هذا الكون مظهر لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، وهذا الكون ثابت متفق عليه، والكل يخضع له، لذلك في عصور الاضطرابات العقدية، في عصور الفتن والضلالات يبقى الكون هو الثابت الأول، مهما يكن الإنسان معانداً أو عنيداً أو مستكبراً كيف لا يخضع لآيات تأخذ بالألباب ؟ كيف لا يخضع لمجرة تبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية ؟ وأن الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، كم يقطع في الدقيقة ؟ كم يقطع في الساعة ؟ كم يقطع في اليوم ؟ كم يقطع في الشهر ؟ في السنة ؟ في العشرين مليار سنة، قال تعالى:
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) ﴾
لمــاء:
خاصية التمدد والانكماش في الماء
في هذا الماء خاصة لولاها لما كان هذا الدرس، لما كانت هذه المدينة، لما كان هذا البلد، لما كان إنسان على وجه الأرض، الماء شأنه كشأن أي عنصر، بالتسخين يتمدد، وبالتبريد ينكمش، لو بردناه ينكمش، وينكمش إلى درجة زائد أربع، فتنعكس الآية بآلية مذهلة، فيزداد حجمه، فإذا ازداد حجمه قلّت كثافته، فإذا قلّت كثافته طفا على سطح الماء، وامتنعت البحار أن تتجمد، لكن لو أنه تابع انكماشه لزادت كثافته، فغاص في أعماق البحر، ولتأيها الإخوة، والله الذي لا إله إلا هو يمكن أن نمضي كل أعمارنا في التفكر في خلق السماوات والأرض، هذا
الإله العظيم يعصى ؟ ألا يخطب وده ؟ ألا ترجى جنته ؟ ألا تخشى ناره ؟ لذلك الكون شيء ثابت.جمدت البحار، ولانعدمت الأمطار، ولمات النبات، ولمات الحيوان، ولمات الإنسان، هذه خاصة في الماء.